قبل أن يكتسب العلم معناه الحديث في القرن الثامن عشر كان يعني المعرفة عموماً، أو الحالة التي يكون فيها المرء عارفاً. وفي العصور الكلاسيكية كان العلم والفلسفة مفهومين متبادلين وكان الشعر الذي لم يكن مختلفاً عنهما اختلافاً جوهرياً يقتفي اثر المعرفة (أو العلم) شأنه شأن غيره من أشكال التعبير الأدبي والفني الأخرى. كان الفلاسفة الإغريق والرومان غالباً ما يعبرون عن أفكارهم بشكل شعري وأحيانا نظماً وكان الشعر والفلسفة والعلم في حقيقة الأمر لا يختلفون بل يتشابهون تشابه أبناء عائلة واحدة.
من أوائل الشعراء الذين ألهمهم العلم هو الشاعر اليوناني أراتوس ( حوالي 315 – 245 ق .م)، فقد ألهمته الفلسفة اليونانية ليكتب قصيدته الفلكية ((الظواهر)) والتي يقدم فيها صورة تعليمية محضة عن تقسيم السماوات إلى أقاليم وكواكب. كانت القصيدة أثرا كلاسيكياً عد من الروائع عند الإغريق وكان لها ألأثر البالغ على مدى ستة قرون بعد وفاة مؤلفها. ومن بواكير الأفكار والتأملات الأخرى في الطبيعة والكون ومعنى الحياة ، وخصوصاً تلك التي عرض لها الفيلسوفان ديموقريطس و أبيقور، هي تلك التي وجدت طريقها إلى قصيدة الشاعر الروماني لوكريشيوس (حوالي 99 -55 ب .م) الفلسفية الكبرى ((طبيعة الأشياء)). تبنى لوكريشيوس نظرية هذين الفيلسوفين في الذرة، وهي نظرية تقول بأن الكون يمكن تحليله إلى عنصرين اثنين فقط، هما الذرة والفضاء، تربطهما علاقات مختلفة فيما بينها. تطرقت القصيدة فضلاً عن ذلك إلى علم الفلك وعلم الأرصاد الجوية، كما تضمنت وصفاً لظواهر سماوية وأرضية مختلفة، وشرحا للأفكار التي تضمنتها النظرية، وهو شرح يظهر إيمان الشاعر بما تعرضه النظرية من أفكار وكذلك تحمسه لها بوصفها نظرية تقدم تفسيراً لمعنى الحياة وطبيعة العقل البشري وكنه الروح، مما يجعل القصيدة إسهامه مهمة في العلم مثلما هي في الأدب أيضا:
في الذرات التي يتعذر على حواسنا إدراكها
ثمة سلسلة من النقاط المتعذر اختزالها
حيث من المؤكد أن كل نقطة منها
لا يمكن انقسامها وهي صغيرة جداً.
لم توجد وحدها
ولن تظهر وحدها
إذ أن كل شكل للذرة يوجد
كجزء رئيسي ومنفرد
من شيء أخر
وان أجزاء الذرة الأخرى والأخرى
في نظام دقيق.
تؤلف طبيعة الشيء.
ونكتفي بذكر مثال أخير من العصر الكلاسيكي هو القصيدة التعليمية الكبرى ((الجورجيات)) للشاعر الروماني فرجيل ( 70 – 19 ب .م ). تضع هذه القصيدة الإنسان في تماس مباشر مع الطبيعة من خلال تزويد المزارعين والفلاحين بالمعلومات الضرورية عن مختلف شؤون الزراعة وتقنياتها فضلاً عن احتفائها مباهج حياة الريف.
عندما نأتي إلى القرون الوسطى نجد أن "نظام العلوم" الذي استقي من أرسطو ونظريته حول الفن جعل من الممكن النظر إلى الشعر على انه علم من العلوم. وكانت تلك العلوم تصنف إلى الأصناف الثلاثة الآتية: العلوم النظرية، والعلوم العقلية، والعلوم التطبيقية ، وكان ينظر إليها جميعاً على إنها "علمية"، بمعنى أنها تسعى لاكتشاف الحقيقة. من جهة أخرى، فان نظرة أفلاطون المعادية للشعر جرى تعديلها على يد أفلوطين Plotinus(203 -262 ب. م ) وكذلك على يد الأفلاطونيين الجدد neo-Platonistsالذي وجدوا في الفن طريقاً يمكن من خلالها التوصل إلى الحقيقة المطلقة، فيصبح الفن بالتالي احد أرقى أنواع العلوم.
إلا إن المكانة التي أعطيت للشعر من بين علوم القرون الوسطى تذبذبت بين فكرتين مختلفتين. الأولى هي أن الشعر ما هو إلا "بلاغة ثانوية " أو " ممهد لعلم الكلام " ، وبالتالي فهو خلو من المعرفة. أما الفكرة الثانية فتفيد بأن تمثل العلم في الشـــــعر جعل من الأخير وسيلة من وسائل المعرفة (كما هي الحال بالنسبة للشاعر الايطالي دانتي أليغيري 1265 -1321 م، أعظم شعراء القرون الوسطى وأكثرهم تمثلا لعلوم عصره وتوظيفا لها في شعره). فعندما كان ينظر إلى الشعر بوصفه "علماً نظرياً"، كان يعد وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة المطلقة وأداة بيد الفلسفة. أما عندما ينظر إليه بوصفه مرتبطاً بالوحي والإلهام، فانه لا يعد نقيضاً للعلم. وكانت هذه النظرة يتبناها على الصعيدين النظري والتطبيقي الشاعر دانتي الذي كان ينظر إلى كل من الشعر والعلم على أنهما في خدمة الدين والوحي، ويتعامل معهما على هذا الأساس في ما كتب من شعر .
وظف دانتي معرفته الموسوعية بعلوم وفنون عصره في قصيدته الكبرى ((الكوميديا الإلهية)) من خلال ربطها بالعقيدة المسيحية وبالصوفية. وعلى الرغم من أن بعض النقاد ينكر على دانتي تميزه الشعري في هذا الجانب، على أساس الاعتقاد بان العلم ليس موضوعاً مناسباً للشعر، ألا أن اغلب النقاد يجدون في ((الكوميديا الإلهية)) قصيدة عظيمة لهذا السبب بالذات، أي لأنها توظف العلم وتجعله في خدمة القصيدة. والقصيدة هي وصف للحياة الآخرة وعمل تنويري روحي وأخلاقي غني بالرموز والإشارات بناها دانتي على معرفته الواسعة بالفلسفة واللاهوت وعلم الفلك والتاريخ وعلوم الطبيعة فتمثلها تمثلاً فنياً من خلال تحويلها إلى صور حسية ولغة مليئة بالمحسنات البلاغية فضلاً عن استخدامه شخصية أو قناع الفيلسوف الذي يمزج فيه الشاعر الفلسفة والعلم والأخلاق مزجاً فنيا وإبداعيا موفقاً.
يعود أول ظهور يمكن تلمسه للعلاقة بين الشعر والعلم في انجلترا –وهو موضوعنا الأساس—إلى أول الشعراء الانكليز الكبار وأعظمهم في القرون الوسطى، الشاعر الذي يوصف عادة بأنه أب الشعر الانجليزي، جفري تشوسر (حوالي 1343 -1400 ). كان تشوسر من بين أوائل الشعراء الانجليز الذين وظفوا العلم في شعرهم. فرائعته ((حكايات كانتربري)) تحتوي على أشارات وإحالات إلى جميع علوم عصره تقريباً. فــ((حكاية الفارس)) مثلاً تستخدم علم الفلك وعلم التنجيم اللذين كانا شائعين في القرون الوسطى لغرض تشكيل قصة سحر وتنجيم تتناول التأثيرات المتضاربة للكواكب والنجوم في مصائر البشر، كما في الأبيات الآتية:
ومقتل قيصر كان مجسدا في تمثال
وكذلك نيرون ومارك انطونيو.
وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، فموتهم كان قد خط مسبقاً
من أجل تزيين هذا المعبد بصورة اله الحرب مارس موعدا ومهددا،
مثلما هو مرسوم في النجوم أيضا،
محدداً من سيموت مقتولاً ومن سيموت من اجل الحب.
ويكشف تشوسر أيضا عن معرفته بجميع علوم عصره الوسيط كما يتضح من إحالاته العديدة إلى النظام البطليموسي وعلم الفراسة ونظرية الأخلاط الأربعة والفيزياء والكيمياء والطب وتفسير الأحلام وغيرها من علوم القرون الوسطى.
أن علم الفلك هو العلم الأكثر صلة بالمشاعر الروحية لبني البشر ولطالما كانت مدلولاته ذات تأثير كبير على الشعر والأدب عموماً. فالنظام البطليموسي القديم في علم الفلك، ونظريات فيثاغورس وديموقراط وليوسبيوس وغيرهم في نشأة الكون وعلم الكونيات (الكوزمولوجيا) عموماً، ونظرية أفلاطون في الأجسام الصلبة الخمسة المنتظمة، ونظرية الأخلاط الفسيولوجية وما يقابلها من عناصر في الكون—الكآبة التي تقابل التراب والبلغم الذي يقابل الماء والدم الذي يقابل الهواء والغضب الذي يقابل النار— ونظرية الكون الأكبر والكون الأصغر ونظرية سلسلة الوجود ...كل هذه النظريات ونظريات أخرى مرتبطة بها بقيت، هي وما تضمنته من مدلولات أخلاقية وفلسفية ودينية، متداولة في الاستعمال الشعري وعدت نظريات مقبولة على مدى قرون أسس الإنسان عليها منظوره عن نفسه وعن موقعه ومكانته في هذا الكون.
ظلت هذه النظريات تؤثر في أخيلة الشعراء طوال القرون الوسطى وما بعدها حتى عصر النهضة، وخلاله أيضا، لحين ظهور ما أطلق عليه فيما بعد بــ"العلم الجديد" في نهاية القرن السادس عشر، وهو العلم الذي ظهر عندما أتم غاليلو وكبلر النظرية الكونية التي كان كوبرنيكوس قد صاغها على النقيض من نظرية بطليموس . وكان شكسبير ومعاصروه يقبلون بهذه النظريات ويسيرون في هديها كما فعل دانتي وتشوسر وآخرون من قبلهم .
تناول شكسبير الاعتقاد النابع من هذه النظريات والقائل بوجود علاقة بين عالم الإنسان (الكون الأصغر macrocosm) وعالم الكون (الكون الأكبرmicrocosm) في المشهدين الشهيرين "مشهد الجنون" في مسرحية ((الملك لير)) ، والمشهد الإغريقي في مسرحية ((كرويلس وكريسيدا)). أن اختلال التوازن والجنون الذين يعاني منهما الملك لير يجدان انعكاساً لهما في الفوضى التي تحصل في الطبيعة والتشوش والارتباك الذين يعتريان عناصرها. وفي مسرحية ((كرويلس وكريسيدا)) يستعمل يوليسيز(عوليس) مقارنة كونية – فكرة سلسلة الوجود – لشرح ضرورة النظام في دنيا السياسة لدى الإنسان بوصفها جزء من النظام الكوني الذي يتوجب فيه على "السماوات ذاتها والكواكب وهذا المركز .../ أن تتقيد بالمنزلة والأولوية والمكانة ... والتناسب والعقل والشكل." وكان شكسبير، شأنه شأن غيره من الكتاب الإليزابيثيين، يستقي استعاراته وصوره من الخيمياء ومن الموروث الشعبي التقليدي للتاريخ الطبيعي وعلم الفلك، وكانت إشارته إلى النظام السماوي إشارات بطليموسية وفلكية وأسطورية. في النص الآتي من مسرحية تاجر البندقية يقدم لورنزو وصفاً لموسيقى الإجرام السماوية الفيثاغورية والنيوفلاطونية مخاطباً جسيكا في مشهد ضوء القمر الشهير :
اجلسي يا جسيكا. انظري كيف إن طبقة السماء
تتألف من طيات سميكة من صفائح الذهب البراق:
ما من جرم متناهي الصغر تريه في مداره
إلا وهو في دورانه ينشد مثل ملاك
ويواصل إنشاده للملائكة ذات العيون البريئة؛
يوجد هذا اللحن المنسجم في الأرواح الخالدة؛
بينما هذا الرداء الطيني الفاني
الذي يلفها، يمنعنا من سماعها.
(الفصل الخامس، المشهد الأول، الأبيات 65-71)
هنا، على الرغم من أن شكسبير لا يفصل كثيرا في الموضوع، ألا انه يكشف عن مزيج، أعتبر أمرا مسلما به، من الفلسفة واللاهوت والعلوم الكلاسيكية مع مثيلاتها القروسطية. ورغم أن شكسبير عاش في عصر التلسكوبات والنجوم والفضاء الممتد، عصر غاليلو وكوبرنيكوس، ألا انه لم يكن ليبالِي، حتى في مسرحياته المتأخرة، بعلم الفلك الجديد الذي كان يتطور ويجري أثبات نظرياته على يد معاصريه من العلماء، ربما لأنه، كما هو الاعتقاد السائد، كان مهتماً بالإنسان أكثر من اهتمامه بالكون.
من طرف عادل صالح الزبيدي